ناركوفسكي عن نشأة الدونچوان

كتب رودولف ناركوفسكي في كتابه “مذكرات عاشق محترف” يقول:

كنت أعشق عالم النساء ولكن بذكورة، وربما بكثير من العدوانية، فليس ثمة حب بلا عدوان، وليس ثمة عدوانٍ غير مشوب بالمحبة، والحد الفاصل بين العدوان والمحبة يحتوي كثيرًا من الثقوب.
ألا ترى قبلة عاشقين متلهفين وكأنهما يلتهمان بعضهما، كلٌ منهما وكأنه يبتغي ابتلاع الآخر، أوليس الجنس نوعًا من الطعن، والغيرة المرتبطة بالحب نوعًا من الرغبة في الاستيلاء!
أوليست بدايات الهوى نوعًا من المطاردة والفرار والتصيد ونصب الفخاخ!

أنا قد عشقت عالم النساء بكافة تفصيلاته، ولكن هل نعشق حقًّا؟!
أوليس العشق هو محاولة استعادة للفردوس الأمومي المفقود! لعالم الطفولة الحرة المشاغبة المفعمة بالإشباع!
وأنا فردوسي كان ممتلئًا بالنساء، لم يكن للذكورة حضور سوى في دمائي، أما محيطي فكان عامرًا بالأنوثة، أخواتي من الفتيات وأمي دسمة النفس مركزة الأنوثة عنيفة الحرارة الجنسية وأبي غائبٌ لا يعوضه أحد، محاط بالخالات والعمّات وليس ثمة أخوالٍ أو أعمام، جدي توفى تاركًا جدتي المرأة القوية المتسلطة التي يحمل وجهها طيفٌ واسع من احتمالات الغضب والثورة والعنف والتهديد!

وكأنني كطفل يحبو مستكشفًا العالم بات عليه أن يستكشف فرادة كل امرأة من هؤلاء، وتمايزهن عن بعضهن البعض، أصبحت عيناي مطالبتان باكتشاف الفوارق والاختلافات الطفيفة بين كل فتاة وأخرى ممن يسكنّ عالمي الفردوسي الصغير!
عن دون عمدٍ صارت مجساتي تنمو وتتدرب، وطورت نوعًا من مستقبلات عالية الحساسية لمشاعر الإناث، ومستشعرات بالغة الدقة للتفرد الجمالي لنفس كل فتاة جواري، والأهم قدرة عجيبة على الملاحظة، فصرت ألتقط أقل تغيير في وجه أمي أو ملامح جدتي متأهبًا لانقضاضة جديدة منها، ناهيك عن اكتشافي لأقل تغيير ينشأ على جسد إحدى المحيطات بي، اليوم تضع خالتي أحمر الشفاه مع خطوط سوداء تحيط بعينيها بفعل الكحل، وعمتي قد اختلف محور تصفيفها لشعرها اليوم متزامنًا مع اكتئابها، وقد تقشر طلاء أظافر ابنة خالتي في طرف خنصرها الأيمن وابهامها الأيسر، وهناك شعرة رقيقة فات على أمي التقاطها في طرف حاجبها، وشعرة بيضاء زائدة تضاف إلى جمة زوجة حارس العقار نفرت من تحت غطائها.
وكل تلك الملاحظات كانت تزودني بمعلومات بالغة الأهمية في التعامل لأتحاشى غضبة أنثوية أو ثورة تسلطية من المجتمع الأمومي الذي أحياه!

كان الناس من حولي يتأففون من ذكورية مجتمعنا الكبير، وسلطة الأب الغاشمة، أما أنا فكان مجتمعي الصغير أنثويًّا بامتياز، لا سلطة فيه سوى للأمهات، في تراتبية (هيراركية) متصاعدة بترتيبهن وعدد أبنائهن أو بالأحرى بناتهن لنصل إلى الجدة رأس العائلة!
كنت أمثل الذكور، ذكرًا أوحد، أقلية متمردة، قضيبٌ وحيد مشاكس يتدلى بين عشرات الأثداء المحافظة ظاهريّا واللواتي يشعرن بالوحدة والإحباط الجنسي والغضب من الرجال!
ربما كنت سأمثل لهم سبيلًا التنفيس، كانت عيونهن تلمع بالرغبة في إخصائي؛ في قطع قضيبي، وكسر عنادي، وتحويلي إلى “فتاة” أخرى.. وبات عليّ المقاومة.
والمقاومة الصريحة كانت تعني (الوأد حيًّا)، لذا اخترت المقاومة الناعمة، أن أقوم بتمثيل دور القضيب الجيد، الذكر الأمثل المفقود، أن أستمع لحكاياتهن وأرى ماذا ينتظرن، وماذا كنّ يأملنّ من ذكورهن الشاردة ورجالاتهن الغائبين، وأقوم بتزويد ذكورتي بتلك المفقودات..

لذا كانت تلك التمثيلات الخيالية من تلصصاتي على الحكايا وتكميلي للصورة بنقيض ما يثير احباطاتهن، مضافة إلى تلك المجسات التي تستشعر التفرد والاختلافات والتغييرات الدقيقة فيهنّ، تضافرا لتصنع عدتي للنجاة!
وهكذا تحول وجه الصراع، لأصير “محبوبهن” اللطيف
“هذا الولد الملعون حين يكبر سيفسد العالم بلسانه المعسول وقدرته على مخاطبة الأنثى”
هكذا تقول خالتي ضاحكة وأنا أعلق على جمال اطلالتها ذات صباح.

النساء يقتتن على التقدير والحفاوة بصغير بذلهن وكبيره، وذلك يستوجب اليقظة والانتباه لأقل ما يفعلن وإزاحته من الهامش نحو منتصف الصفحة، تحت الضوء.. وهنا نبتت جرأتي.
لا آكل طعامًا قبل أن أمدحه، ولكن النساء لا يصدقن المديح الزائف ويكرهن الكلام المكرر وتغيظهن مجاملة يدركن مخالفتها للحقيقة، لذا كان عليّ أن أطور نمطًا من الغزل اللامعتاد ينبني دومًا على حقيقة ما، على تغيير ملحوظ، على فرادة منتقاة بعناية أحيك حولها حبك المغازلة وأشيد فوق أساسها بناءات الثناء.. وقد كانت تفلح في كل مرة.
فأخذت لغتي تنمو وتتطور لتواكب احتياجاتي اليومية للتنويع والعزف على مختلف الآلات الأنثوية المحيطة، كلٌ لها معزوفتها، وكلٌ لها أوتارها، وكلٌ لها ثغراتها وأبوابها ونوافذها!

وهناك رأيت الرغبة في عيونهنّ، دافئة هي تلك الرغبة النابتة فوق تعويضٍ عابث عن احباطاتهنّ.
هناك رأيت التلهف والانتظار لجميل ثناء أو حلو مديح أو رقيق غزلية.
هناك عرفت بالضبط كيف السبيل لتضحك الأنثى، ولتسعد امرأة، ولتنتشي سيدة قوية في السر تخبيء انفعالاتها!

هناك تعلمت كيف أكون الوجه الآخر للاحباط، مثال المنتظر الغائب.. هناك هزمت الكثير من الرجال دون مبارزة أو مقاتلة، هزمت الغائبين بحضور مختلف لفتى يبحث عن النجاة بذكورته والاحتفاظ بقضيبه من ثأر لاواعي لعشرات المحملات بالاحباط!

أصبحت أدرك كيف أداعب فتاة محبطة، وهل تحمل دنيانا من النساء أكثر من المحبطات!

وأتضح أن ساكنات عالمي ذلك يشبهن الساكنات بالخارج، يشبهن جارتنا، والسيدة التي تقطع التذاكر بشباك محطة القطار، ومعلمتي، وابنة الجيران، وزوجة عامل المخبز!

وهناك نبتت أولى محطات (احتراف العشق) ..
وللحديث بقية..

رودولف
كيزيل
1923


المترجم:
عماد رشاد

أضف تعليق